وهناك الذين فترت- أول الأمر- هممهم، فلما جدّ الرحيل وانطلق الجيش أحسوا خطر التخلف على إيمانهم فنهضوا يدركون ما يوشك أن يفوتهم، منهم (أبو خيثمة) عاد يوما إلى أهله- بعد مسير النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه- وكان اليوم قائظا، فوجد امرأتيه كلتيهما، قد أعدتا له الطعام الشهيّ والماء البارد الرّويّ، ووجد مسكنه مبللا رطبا، وسط بستانه الذي أخذ بسره الأحمر ينضج ويسودّ. فاستيقظ ضمير الرّجل، وقال: رسول الله في الشمس والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ والله ما هذا بالنّصف!.
ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه فارتحله.
وأسرع الرجل المؤمن يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
[[مصاعب وصبر وعزيمة] :]
وعانى الجيش الذاهب إلى تبوك مصاعب ثقيلة؛ روى الإمام أحمد في تفسير قول الله عز وجلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: ١١٧] ؛ قال: خرجوا في غزوة (تبوك) الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها، ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر.
وعن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! إنّ الله عوّدك في الدعاء خيرا فادع الله لنا! فقال: «أو تحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى قالت السماء- أي اذنت بمطر- فأطلت، ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر «١» .
(١) ذكره ابن كثير في التاريخ: ٥/ ٩، من رواية عبد الله بن وهب بسنده عن ابن عباس، ثم قال: «إسناده جيد» ، وهو عندي غير جيد؛ لأنّه من رواية عتبة بن أبي عتبة. وقد ذكره-