إنّ نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلمّوا إلى يثرب.. فلم تكن الهجرة تخلّصا فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد امن.
وأصبح فرضا على كلّ مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأنّ يبذل جهده في تحصينه، ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة- بعد الهجرة إليها- نكوصا عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالحياة بها دين، لأنّ قيام الدين يعتمد على إعزازها.
وفي عصرنا هذا أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضا مهنّئا؛ لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قوميّ لهم، بعد أن عاشوا- مشرّدين- قرونا طوالا.
ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماس المهاجرين من كلّ فجّ للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه.
ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم- أو بتعبير أدق: ما صنع لليهود اليوم- وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم.
إنّ اليهود جاؤوا على حين فرقة من العرب، وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله، فإذا بالعالم كلّه يهجم على فلسطين بالمال والسلاح، والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مازق ضيقة أن يصنعوا شيئا، فهاموا على وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق أمريكة، وروسية، وإنكلترة، وفرنسة و.. ملوك العرب؛ على خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال في أنحاء الدنيا!!.