إنّ الرجال الذين تكلموا باسم قريش في هذه المفاوضات لم تنهض لهم حجة، بل إنهم عادوا إلى أهل مكة وهم أميل إلى ملاينة المسلمين، وتمكينهم من أداء نسكهم، ولم يلحف بعضهم في التصريح بذلك إلا لما لمسه من كبرياء قريش وعزوفها عن الحق بعد ما تبيّن. إنّ النزق استبدّ بهم، وأطاش ألبابهم، فقرّروا ألّا يدخل المسلمون البلد الحرام، وليكن ما يكون..
وبقي المسلمون في أماكنهم، يلتمسون للمشكلة حلولا أخرى أفضل من اقتحام مكة في هجوم عام، وحاول فريق من السفهاء أن يشعل المعركة، لكنّ المسلمين لزموا الهدوء وملكوا أعصابهم.
فعن ابن عباس أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا، وأتي بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وكانوا رموا في العسكر بالحجارة والنبل «١» .
ومن السكينة التي تنزلت على المسلمين أنّ رسل قريش كانت تغدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتروح فلا يعترضها أحد، أما رسل المسلمين إلى قريش فقد تعرّضت للهلاك، كاد خراش بن أمية الخزاعي يقتل، لولا أن أنقذه الأحابيش، فرجع وقد عقر جمله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أرسله ليبلّغ أهل مكة حقيقة مجيئه، وأنّه يريد العبادة لا الحرب..
والرسل لا تقتل، بيد أنّ غليان قريش أفقدها الوعي.
(١) ضعيف، رواه ابن هشام: ٢/ ٢٢٨، عن ابن إسحاق، وفيه رجل لم يسم، ورواه نحوه مختصرا أحمد: ٤/ ٨٦- ٨٧، من حديث عبد الله بن مغافل بسند صحيح وفيه: أنّ عدد المشركين ثلاثون شابا؛ وفيهم نزل قول تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ الاية [الفتح: ٢٤] .