زالت غبرة الجاهلية عن افاق الجزيرة كما تزول بقايا الليل أمام طلائع الشروق، وصحّت العقول العليلة فلم تعد تخشى وترجو إلا الله، بعد ما ظلّت دهورا تعبد أصناما جامدة، وسمع الأذان للصلوات يشقّ أجواز الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القرّاء شمالا وجنوبا يتلون ايات الكتاب، ويقيمون أحكام الله، ويعلّمون العرب ما لم يعلموا هم ولا اباؤهم.
إنّ هذه الجزيرة- منذ نشأ فوقها عمران- لم تهتزّ بمثل هذه النهضة المباركة، ولم يتألّق تاريخها تألّقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة يستقبل الوفود، ويشيّعها بعد ما ينفخ فيها من روحه الكبير، ويزودها بحكمته الباهرة، فتعود من حيث أتت؛ لتنشئ في مواطنها القصية معاقل للإسلام وصحائف بيضا في تاريخ أمة.
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بترقّب الوفود المقبلة، بل أرسل رجاله الكبار إلى الجنوب ليزيد رقعة الإسلام هناك اتساعا.
فإنّ في اليمن وما حولها قبائل كثيفة العدد، ولأهل الكتاب السابقين نشاط قديم، وقد نشأ الإسلام هناك حقا وتقلّص ظل الفرس لغير عودة.
إلا أنّ هذه البقاع النائية تحتاج مزيدا من رعاية وتفقّد.
ومن ثمّ بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ثم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين «١» .
وكأنّ هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره أنّ مقامه في الدنيا يوشك على النهاية! فإنّه بعد أن علّم معاذ بن جبل كيف يدعو من يلقاهم، وكيف