للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

باحثون عن الحقّ

قلنا: إن الوثنية تزيّن باطلها بطلاء من الحقّ؛ ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة، فهي تزعم الإيمان بإله خلق السموات والأرض، وفي الوقت نفسه تشرك معه الهة أخرى هي مزدلف إليه ووسيلة، ولمّا كان خالق السموات والأرض بعيدا عن مرأى الأعين، فقد أنس العبّاد المشركون بالالهة القريبة من أيديهم، والتي يتردّدون عليها صباحا ومساء، حتى صارت صلتهم بها أحكم من الصلة بالإله الأصيل، وأصبح ذكر هذا الإله- المتوسّل إليه بغيره- لا يرد إلا في معرض الجدال والاعتذار:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩) [الزخرف] .

غير أنّ التعصب لهذا السّخف جاوز الحدود، فأما العامة فهم بهم، أحلاس ما توارثوا، فقدوا نعمة العقل الحرّ، بل العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون.

وأمّا الذين أوتوا حظّا من التفكير، فإنّ تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرّأ على التقاليد المستحكمة، ويجهر بالحق، وأقلّ من ذلك من يعيش له ويضحّي في سبيله.

وقد وجد قبل البعثة من نظر إلى وثنية العرب نظرة استهزاء، ومن عرف أنّ قومه يلتقون على أباطيل مفتراة، ولكنه لم يجد الطريق أو الطاقة على كفّهم.

أخرج البخاري «١» : أنّ ابن عمر رضي الله عنهما حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لقي


(١) أخرجه الإمام أحمد، رقم (٥٣٦٩) ، من حديث ابن عمر، وقد رواه أيضا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو (١٦٤٨) ، وفيه زيادة منكرة، وهي تتنافى مع التوجيه الحسن الذي وجّه به الحديث حضرة المؤلف، وهي قوله بعد: (إني لا اكل مما تذبحون على-

<<  <   >  >>