والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنّهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خيرا من الإحجام، ومن ثمّ قرر أن يمضي، فإنّ الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو.
وقد اختفت- على عجل- مشاعر التردّد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم.
والمسير بإزاء طريق القوافل إلى (بدر) ليس سفرا قاصدا، أو نزهة لطيفة، فالمسافة بين (المدينة) و (بدر) تربو على (١٦٠) كيلو مترا، ولم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه غير سبعين بعيرا يعتقبونها.
روى أحمد «١» عن عبد الله بن مسعود، قال:«كنّا يوم بدر، كلّ ثلاثة على بعير- أيّ يتعاقبون-. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك- ليظلّ راكبا- فقال: «ما أنتما بأقوى منّي على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» !!.
وبثّ المسلمون عيونهم يتعرّفون أخبار قريش: أين القافلة، وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟.
[[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :]
حين أحسّ أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث (ضمضم بن عمرو الغفاري) إلى مكة يستصرخ أهلها، حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم.
واستطاع (ضمضم) هذا إزعاج البلدة قاطبة؛ فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمّد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!.
(١) في المسند، رقم (٣٩٠١، ٣٩٦٥) ، وسنده حسن؛ وأخرجه الحاكم: ٣/ ٢٠، وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم» .