فتجهّز الناس جميعا، فهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلي، يمتطي الصعب والذلول، فكانوا تسعمئة وخمسين مقاتلا، معهم مئتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.
وولوا وجوههم إلى الشمال، ليدركوا القافلة المارّة تجاه يثرب هابطة إليهم.
لكنّ أبا سفيان لم يستنم في انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء لمخاتلة المسلمين، والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء في أيديهم وهم يشتدون في مسيرهم نحو بدر، غير أنّ الحظّ أسعفه!.
روي أنه لقي مجديّ بن عمرو فسأله: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره؛ إلا أنّي رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين، ثم فتّها فإذا النوى، فقال: هذه- والله- علائف يثرب! وأدرك أنّ الرجلين من أصحاب محمّد، وأنّ جيشه هنا قريب.
فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق شاردا نحو الساحل، تاركا بدرا إلى يساره ... فنجا.
ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة، فأرسل إلى قريش يقول: إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجّاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل:
والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا.
وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن تدعيم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع- بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت- يعتبر كارثة للإسلام ووقفا لنفوذه، وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله، وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضرا؟.
لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجول المسلح في هذه الأنحاء، إبرازا لهذه المعاني القوية، وتمكينا لصداها في القلوب.