إن أبا طالب- برغم بقائه على الشرك، واستمساكه بدين الاباء- ظلّ حيّ العاطفة، ظاهر الحدب على ابن أخيه؛ وهو مدرك كل الإدراك ما سوف تجره هذه الدعوة من متاعب عليه وعلى أسرته، بيد أن إعزازه لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأذّيه من مواجهته بما يكره، حملاه على ضمان الحرية له، بل على التعهّد بحمايته وهو يبلّغ عن ربه!!.
وأبو طالب من رجالات مكة المعدودين، كان معظّما في أهله، معظّما بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته، واستباحة بيضته، وكان بقاؤه مع أهل مكة- محترما للأوثان- من أسباب امتداد نفوذه ورعاية حقوقه ...
أمّا أبو لهب فصورة لأرباب الأسر المتهالكين على مصالحهم وسمعتهم من غير نظر إلى حق أو باطل، فأيّ عمل يعرّض مصالحه للبوار، أو يخدش ما لاسمه من منزلة يهيج ثائرته، ويدفعه لاقتراف الحماقات ...
وفي طبيعة أبي لهب قسوة تغريه باقتراف الدنايا، كان أبناؤه متزوّجين ببنات محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بفراقهنّ، فطلق عتبة وعتيبة رقية وأم كلثوم..
ولعلّ أبا لهب كان متأثّرا في هذه البغضاء المتنزّية بزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وهي امرأة سليطة، تؤزها على كراهية محمد صلى الله عليه وسلم ودينه علل شتى، ولذلك بسطت فيه لسانها، وأطالت عليه الافتراء والدسّ.
وإذا كانت أهواء الجاهلية تدفع عمّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإغلاظ معه على هذا النحو الوضيع؛ فكيف يكون مسلك الأباعد الذين يتمنّون العثار للسليم والتهمة للبريء؟!.
ولكن ما أبو لهب؟ وما قريش؟ وما العرب؟ وما الدنيا كلها؟ بإزاء رجل يحمل رسالة من الله الذي له ملك السموات والأرض، يريد أن يعيد بها الرّشد