عند ما كان الإسلام دعوة تغالب النظام السائد كانت مخاصمته تتخذ طريق الجهرة والتهجم دون مبالاة، فلما استقرّ له الأمر، وتوفّرت لأبنائه أسباب القوة، سلكت عداوته المسارب التي تسلكها الغرائز المكبوتة، فأمسى الكيد له يقوم على المكر والدس إلى جانب الوسائل الاخرى التي يعالن بها الأقوياء.
وائتمار الضعفاء في جنح الظلام لا يقلّ خطورة عن نكاية الأقوياء في ميادين الصدام،؛ بل إنّ المرء قد يألم لإشاعة ملفقة أكثر مما يألم لطعنة مواجهة.
وفي الحروب الفاجرة تستخدم جميع الوسائل التي تصيب العدو؛ وإن كان بعضها يستحيي من استخدامه الرجل الشريف!.
وقد لجأ المنافقون في المدينة إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته بأسلوب تظهر فيه خسة النفس الإنسانية عند ما يستبد بها الحقد، ويغلب عليها الضعف، أسلوب اللمز والتعريض حينا، والإفك حينا اخر.
وكلّما توطدت سلطة المسلمين، ورسخت مكانتهم، ازداد خصومهم المنافقون ضغنا عليهم، وتربصا بهم، وقد حاولوا تأييد اليهود عند ما تأذّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء، فلما لم يوقف مدّ الإسلام شيء، ولم تهدّه هزيمة، وأخذت القبائل العادية تختفي واحدة تلو أخرى، التحق أولئك المنافقون بصفوف المسلمين ولم تنكشف نياتهم السوء إلا من فلتات الألسنة ومزالق الطباع، فكانت سيرتهم تلك مثار فتن شداد، تأذى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون شيئا غير قليل.
وظهر ذلك جليا في غزوة (بني المصطلق) . فإن الأنباء أتت الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه القبيلة تجمع له وتستعد لقتاله، وأن سيدها الحارث بن أبي ضرار قد استكمل عدته لهذا المسير، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ليطفئ الفتنة قبل اندلاعها.
وخرج مع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة جمع من المنافقين،