انفضت حشود الأحزاب حول المدينة، وعادت المطيّ بها من حيث أتت تذرع رحاب الصحراء، وليست تحمل معها إلا الفشل والخيبة، وبقي يهود بني قريظة واحدهم، أو بقوا وبقيت غدرتهم، التي فضحت طواياهم، فأصبحوا وأمسوا أشبه بالمجرم الذي ثبتت إدانته، فهو يرقب- بوجه كالح- قصاص العدالة منه.
وكانت مشاعر التغيّظ في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، إنّهم هم الذين استخرجوا العرب استخراجا، واستقدموهم إلى دار الهجرة ليجتاحوها من أقطارها، ويستأصلوا المسلمين فيها.
إن جراحات المسلمين لطردهم من ديارهم، ومطاردتهم في عقيدتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم لكلّ ناهب ومغتال، لمّا تندمل بعد، بل لن تندمل أبدا، فكيف ساغ لأولئك الخونة من بني إسرائيل أن يرسموا بأنفسهم الخطة لإهلاك الإسلام وأبنائه على هذا النحو الذليل؟.
ثم ما الذي يجعل بني قريظة خاصة- وهم لم يروا في جوار محمد صلى الله عليه وسلم إلا البر والوفاء- يستديرون بأسلحتهم منضمين إلى أعداء الإسلام، كي يشركوهم في قتل المسلمين وسلبهم؟.
وها قد دخل في حصونهم حيي بن أخطب رأس العصابة التي طافت بمكة ونجد، تحرّض الأحزاب على الله ورسوله، وتزعم أنّ الوثنية أفضل من التوحيد!!.
لذلك، ما إن وثق المسلمون من منصرف الأحزاب عن المدينة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا فأذّن في الناس:«من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة»«١» .
(١) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: ٢/ ١٩٤- ١٩٥، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري به مرسلا، وقد أخرجه البخاري: ٧/ ٣٢٧؛ ومسلم: ٥/ ١٦٢، وغيرهما من حديث ابن عمر به، دون قوله: «من كان سامعا مطيعا» .