عاد محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الرحلة ليستأنف مع عمّه حياة الكدح، فليس من شأن الرجال أن يقعدوا، ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد صحّ أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم، وقال:«كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» ... كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها «١» ، أترى ذلك تعويدا لهم على سياسة العامة، والرفق بالضعفاء والسهر على حمايتهم؟.
وقد تسأل: أتنقدح المعارف المتصلة بالكون وما وراءه، والناس وما يفيضون فيه- أتنقدح حقائقها في نفوس المرسلين فجأة، دون إعداد سابق أو تهيئة حكيمة؟.
والجواب: كلّا، فالأنبياء- وإن لم يتعلّموا بالطرق التي يتعلم بها أمثالنا- لهم من سلامة فكرهم واستقامة نظرهم ما يجعلهم في طليعة العلماء وإن لم يتعلّموا بما نعهد من أساليب.
ما العلم الذي ترقى به النفس؟ أهو حفظ الدروس واستيعاب القواعد والقوانين؟.
إنّ هناك ببغاوات كثيرة تردّد ما تسمع دون وعي، ولقد نرى أطفالا صغارا يلقون- بإتقان وتمثيل- خطبا دقيقة لأشهر الساسة والقادة.
فلا الأطفال- بما استحافظوا من كلام الأئمة- أصبحوا رجالا، ولا الببغاوات تحوّلت بشرا.
وقد تجد من يحفظ ويفقه، ويجادل ويغلب، ولكن العلم في نفسه كعروق الذهب في الصخور المهملة، لا يبعث على خير، ولا يزجر عن شر.
(١) أخرجه البخاري: ٤/ ٣٤٩، من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .