كان يعقوب حيّا يرزق، له شيخوخته وتجربته وحكمته؛ بل له نبوته، وقد نظر يوما ما فلم يجد يوسف قريبا منه؛ إنه فقده في أخطر فترات العمر، فترة الصبا اللدن، واليفاعة الغضة، ومع فساد البيئات التي احتوت يوسف، فقد كان باطنه ينضح بالتقى والعفاف، كما يتّقد المصباح في أعماء الليل المدلهم، فلما التقى الابن بوالده بعد لأي، رأى يعقوب ابنه نبيّا صدّيقا ...
لقد ولّى عبد الله، وترك ابنه يتيما، بيد أن هذا اليتيم كان يعدّ من اللحظة الأولى لأمر جلل، أمر يصبح به إمام المصطفين الأخيار، وما الأب والجد، ما الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسماء إلا وسائل مسخّرة لإتمام قدر الله، وإبلاغ نعمة الله من اصطنعه الله.
[[عرضه على المراضع] :]
أقبلت (امنة) على ابنها تحنو عليه في انتظار المراضع المقبلات من البادية، يتلمسن تربية أولاد الأشراف، والأعرابيات اللاتي يقصدن مكة لهذه الغاية هن طالبات رزق ويسار، ولم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم أب ترقب عطاياه، أو غنى تغري جدواه، فلا عجب إذا زهدت فيه المراضع وتطلّعن إلى غيره.
وكانت (حليمة بنت أبي ذؤيب) من قبيلة (بني سعد) إحدى القادمات إلى مكة ابتغاء العودة برضيع تستعين على العيش بحضانته، ولم يرض طموحها أول الأمر طفل يتيم؛ إلا أنها لم تجد طلبتها، واستحيت أن تعود صفر اليدين، فرجعت إلى (امنة) تأخذ منها (محمدا) صلى الله عليه وسلم.
وكانت البركة في مقدمه معها، كانت سنواتها عجافا من قبله، فامتنّ الله عليها بخير مضاعف: درّت الضروع بعد جفاف، ولان العيش وأخصب، وشعرت حليمة وزوجها وولدها بأن أوبتهم من مكة كانت باليمن والغنم، لا بالفقر واليتم، ممّا زاد تعلّقهم بالطفل وإعزازهم له.
وتنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوّها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف.
إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق صغيرة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش.