ثم هاجت في نفوس المسلمين مرة أخرى خيبة الأمل، لقد حدّثوا أنهم داخلون في المسجد الحرام، وها هم أولاء قد ارتدوا عنه، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم عائدون إلى دخوله كما وعدوا، فهو لم يذكر لهم أنّهم سيطوفون به هذا العام.
وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجئ، فلمّا فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب، قال لهم:«قوموا فانحروا ثمّ احلقوا» - ليتحللوا من عمرتهم، ويعودوا إلى المدينة- فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من النّاس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج، فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك.
فلمّا رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زاح عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمره، فقاموا- عجلين- ينحرون هداهم، ويحلق بعضهم بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الاخر لفرط الغمّ «١» .
[[أحداث ما بعد الحديبية] :]
ليت نيات الخير والشر تؤتي ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التي ظهرت في عهد الحديبية الانف، إنّه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التي فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة.
ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد!.
لقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تمّ هذا العقد، فإنّ قريشا كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعند ما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة؛ وخصوصا لأنّ قريشا جمدت على سياستها النفعية واهتمت
(١) صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية عند البخاري وأحمد.