و (خديجة) مثل طيّب للمرأة التي تكمّل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبا شديدة الحساسية، ويلقون غبنا بالغا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادا كبيرا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهّد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، بله الإدراك والمعونة! وكانت خديجة سبّاقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم.
قال ابن الأثير:«كانت- خديجة- امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلمّا بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة» .
وقد قبل محمد عليه الصلاة والسلام هذا العرض، ورحل إلى الشام عاملا في مال السيدة التي اختارته، ويظهر أن التوفيق حالفه في هذه الرحلة، أكثر من سابقتها مع عمّه أبي طالب، فكان ربحها أجزل، وسرّت خديجة بهذا الخير الذي أحرزته، ولكن إعجابها بالرجل الذي اختبرته كان أعمق.
... إنها امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، وقد عرفت بالحزم والعقل، ومثلها مطمح لسادة قريش، لولا أن السيدة كانت تحقر في كثير من الرجال أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس، وأن أبصارهم ترنو إليها بغية الإفادة من ثرائها، وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع! لكنها عند ما عرفت محمدا عليه الصلاة والسلام، وجدت ضربا اخر من الرجال؛ وجدت رجلا لا تستهواه ولا تدنيه حاجة، ولعلها عند ما حاسبت غيره في تجارتها وجدت الشحّ والاحتيال، أما مع محمد صلى الله عليه وسلم فقد رأت رجلا تقفه كرامته الفارعة موقف النّبل والتجاوز، فما تطلّع إلى مالها ولا إلى جمالها! لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيا مرضيا.