المنفلتة بغرائز غيره المضبوطة ما بلغت عشر قوتها، لكن هذه وجدت زماما من الرّشد، فكظم عليها، وتلك لم تجد عقلا يردع، ولا خلقا يعصم، فثارت وتمردت ...
وقد كانت رجولة محمد عليه الصلاة والسلام في القمّة، بيد أن قواه الروحية، وصفاءه النفسيّ جعلا هذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع، ثم إنه كان معافى من العقد الكريهة التي تزيّن للشباب تعشّق العظمة عن طريق التظاهر والرياء، أو تطلّب الرياسة عن طريق المداهنة واشتراء العواطف، فإذا انضمّ لهذا كرهه الشديد للأصنام التي عكف عليها قومه، وازدراؤه للأوهام والأهواء التي تسود الجزيرة وما وراءها، وإدراكه أنّ الحق شيء اخر وراء هذه الخرافات الغالبة.. تبينا السر في استئناسه للجبال والفضاء، واستراحته إلى رعي الغنم في هذه الأنحاء القصيّة، مكتفيا بالقليل الذي يعود عليه من كسبها.
أهذا زهد في المال، أو إعراض عن الحياة الدنيا؟ لا؛ إنما هو انشغال بالحقائق العليا التي تصلح بها ويسخّر فيها المال، والرجال الكبار لا تشبعهم كنوز الذهب والفضة إذا ظمئوا إلى الحق، ولا يريحهم أن يكونوا ملوك قومهم أو ملوك الحياة إذا رأوا المساخر الشائنة تسير بالحياة كلها إلى منحدر تسقط فيه أقدار الناس، وتعتري فيه الدنيا جمعاء من كل خير وبر.
كذلك استقبل محمد عليه الصلاة والسلام المرحلة الثالثة من عمره؛ وهي المرحلة التي تعرّف فيها إلى زوجه الأولى (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها.