للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[أولا] : المسجد:]

ففي الأمر الأول- وهو صلة الأمة بالله- بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام، التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات، التي تربط المرء بربّ العالمين، وتنقّي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا.

والمرويّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، في مريد لغلامين يكفلهما أسعد بن زرارة، وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتّخذ مصلّى كهذه المصليات التي تنتشر في ريفنا؛ كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفي في ترابه بعض قبور للمشركين.

فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالقبور «١» فنبشت، وبالخرب فسوّيت، وصفّوا النخل قبلة للمسجد «٢» - والقبلة يومئذ بيت المقدس- وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مئة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريبا، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم.

وكانوا يروّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنّقل والبناء.. بهذا الغناء:

اللهمّ لا عيش إلا عيش الاخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره!!

وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبيّ عليه الصلاة والسلام يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميّز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:

لئن قعدنا والرّسول يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل!!

وتمّ المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح.

هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الاخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيّ يؤمّ بالقران خيرة من امن به، أن يتعهّدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.


(١) هي أجداث أتى عليها البلى حتى هجرت، فلا يدفن بها أحد.
(٢) ثبت هذا في (الصحيحين) وغيرهما من حديث أنس.

<<  <   >  >>