إنّ مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي؛ فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكنّ الناس- لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاما!!.
أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام.
والمسجد الذي وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم همته إلى بنائه قبل أي عمل اخر بالمدينة، ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيّد في عبادته بمكان.
إنّما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبّث به أشدّ تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلا يتجدّد مع الزمن، ويتكرّر اناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الاخر، وتخلط المعروف بالمنكر!.
والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكّر أبدا بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغّض في المنكر، وتقف على حدود الله.
ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد صلى الله عليه وسلم يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهّده للصلاة؛ فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكا يغمز؟!.
روى البيهقيّ، عن عبد الرحمن بن عوف «١» ، قال: كان أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أمّا بعد: أيها الناس! فقدّموا لأنفسكم، تعلمنّ والله ليصعقنّ أحدكم، ثم
(١) هذا خطأ؛ وإنما رواه البيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال ... فذكره. هكذا أورده الحافظ ابن كثير في (البداية) : ٣/ ٢١٤، ثم أعلّه بالإرسال. وقد روى ابن جرير: ٢/ ١١٥- ١١٦، بسند صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة ... فذكرها، وهي مغايرة كلّ المغايرة لخطبة أبي سلمة؛ وهي ضعيفة أيضا لأنّها معضلة؛ الجمحيّ هذا يروي عن أتباع التابعين مثل هشام بن عروة وغيره.