لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جذلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد ...
ومن الطريف أنّ كثيرا من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة، حتى إنّ العواتق كنّ يتراءينه فوق البيوت يقلن: أيهم هو؟.
ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، أسس خلالها مسجد قباء، وهو أول مسجد أسّس في الإسلام، وفيه نزل قوله تعالى:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة: ١٠٨] .
[استقرار المدينة:]
رجل العقيدة يسير طوعا لها، ويجد طمأنينته حيث تقرّ عقيدته، وتلقى الرحب والسعة.
والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلّقت به هممهم، وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار..
فطالب الزعامة يرضى أن ينقم، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من أمله الحبيب.
انظر المتنبي كم مدح وهجا؟ وكيف انتقل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى غيرها، وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته:
يقولون لي: ما أنت في كلّ بلدة ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يسمى
والذي جلّ أن يسمى صرّح به في مكان اخر، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية!! أي بعض ما وضعته الحظوظ في أيدي الملوك والملاك؛ وإنه ليتعجّل هذا الأمل من كافور فيقول:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله؟ ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب!
والمتنبي في نظري أهل- بكفايته- للمناصب الرفيعة، ولكنّ التطلّع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح، محكوم بالمشيئة التي ذكرتها الاية الكريمة:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.. [الإسراء: ١٨] .