للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وماذا يصنع؟ إنّ في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظلّ تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها امنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشّ له.

عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، قال: مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء «١» .. إنّ هذا الأعرابي لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه من عطاء يملأ جيوبه ويسكّن مطامعه.

ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إليّ، حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه «٢» .

[حكمة هذا التقسيم:]

وهذه السياسة البعيدة لم تفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى بالاعتراض، فهناك مؤمنون ظنّوا هذا الحرمان ضربا من الإعراض عنهم والإهمال لأمرهم.

روى البخاريّ عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع اخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: «إنّي أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم: عمرو بن تغلب» .

قال عمرو: فما أحبّ أنّ لي بكلمة رسول الله حمر النعم..

فكانت هذه التزكية تطييبا لخاطر الرجل أرجح لديه من أثمن الأموال.

وكان الأنصار ممّن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة.


(١) صحيح، أخرجه مسلم: ٣/ ١٠٣؛ وكذا البخاري.
(٢) رواه مسلم: ٧/ ٧٥؛ والترمذي: ٢/ ٢٤؛ وأحمد: ٣/ ٤٠١، عن سعيد بن المسيّب: أنّ صفوان بن أمية قال، كذا هو عند مسلم، وظاهره الانقطاع بين سعيد وصفوان؛ وعند أحمد والترمذي عن صفوان، وظاهره الاتصال، ولكنّ الترمذي رجح الأول، وأيده ابن العربي في العارضة فقال: «لأنّ سعيدا لم يسمع من صفوان شيئا» .

<<  <   >  >>