وهذه الطبائع التي تحمل العلم لا تصلح به إنّما تسيء إليه، ولذلك يحسن الضنّ به عليها، وفي الأثر:«واضع العلم عند غير أهله كمقلّد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب»«١» .
ثم هناك الخرافيّون الذين يغالطون في الحقائق أنفسهم، كأنّ عقولهم ميزان ثقلت إحدى كفتيه- لغير سبب-؛ فهو لا يضبط وزنا أبدا، ينبسطون للمستحيلات ويقبلونها، ويتجهّمون للوقائع ويرفضونها.
وقد بلونا أناسا ظلوا يتعلّمون قرابة عشرين سنة تعرض عليهم القضية فيخبطون فيها خبط عشواء، فإذا عرضت القضية نفسها على أمّيّ سليم الفطرة، نقيّ العقل؛ صدع فيها بالحقّ لأول وهلة. ومعنى ذلك: أن هناك من تبذل في إقامة عوجه العقلي عشرين سنة، حافلة بالبحث والدرس، فتعجز عن الوصول به إلى مرتبة رجل أوتي رشده بأصل الخلقة.
ونحن موقنون من مطالعة سيرة محمد عليه الصلاة والسلام بأنه طراز رفيع من الفكر الصائب، والنظر السديد، وأنّه- قبل رعي الغنم وبعده، وقبل احتراف التجارة وبعدها- كان يعيش يقظ القلب في أعماء الصحراء، صاحيا بين السّكارى والغافلين.
وجوّ الجزيرة العربية يزيد خمول الخامل، واحدّة اليقظان، كالشعاع الذي ينمي الأشواك والورود معا، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يستعين بصمته الطويل ... صمته الموصول بالليل والنهار، صمته المطبق على الرمال الممتدة، والعمران القليل.
كان يستعين بهذا الصمت على طول التأمّل، وإدمان الفكر، واستكناه الحق.
ودرجة الارتقاء النفسيّ التي بلغها من النظر الدائم أرجح يقينا من حفظ لا فهم فيه، أو فهم لا أدب معه، ومثله في احترام حقائق الكون والحياة أولى بالتقديم من أولئك الذين اعتنقوا الأوهام وعاشوا بها ولها.
(١) حديث ضعيف جدا، علقه ابن عبد البر في (جامع العلم) : ١/ ١١١؛ ووصله ابن ماجه في سننه: ١/ ٩٨، وفي سنده حفص بن سليمان وهو الأسدي القاري، ال ابن خراش: «كذاب يضع الحديث» وضعفه غيره؛ وقال أبو حاتم: «متروك» . وكذا قال الحافظ في التقريب.