ولا شكّ أنّ القدر حاطه بما يحفظ عليه هذا الاتجاه الفذّ؛ فعند ما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متاع الدنيا- وذلك من قبيل الصغائر التافهة- تتدخّل العناية للحيلولة بينه وبين هذه الأمور.
روى ابن الأثير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته؛ قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب! فقال: أفعل، فخرجت، حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمت، فما أيقظني إلا حرّ الشمس، فعدت إلى صاحبي، فسألني، فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة ... ثم ما هممت بعده بسوء ... »«١» .
(١) حديث ضعيف، أخرجه الحاكم: ٤/ ٢٤٥، من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي. قلت: وهو وهم منهما معا لأمرين: الأول: أن ابن إسحاق إنما يروي له مسلم مقرونا بغيره، كما ذكر ذلك الذهبي نفسه في الميزان، والحاكم لم يروه عنه مقرونا بغيره كما ترى، فليس هو على شرط مسلم. الثاني: أن محمد بن عبد الله بن قيس ليس مشهور العدالة، فلم يوثّقه غير ابن حبان. وتوثيقه عند ما ينفرد به لا يوثق به، لأن من قاعدته أن يوثق المجهولين، كما أفاده المحققون كالحافظ ابن حجر في (اللسان) ؛ ولهذا لما أورد الحافظ ابن قيس هذا في (التقريب) لم يوثقه، بل قال فيه: مقبول: يعني: أنه لين الحديث، حيث لا يتابع كما نص على هذا في مقدمة الكتاب. ثم هو ليس من رجال مسلم خلافا لمن وهم. وقد ضعف هذا الحديث الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية: ٢/ ٢٨٧، بعد أن ساقه بالسند المذكور من رواية البيهقي، حيث قال: «وهذا حديث غريب جدا» وقد يكون عن علي نفسه (يعني: موقوفا عليه) ، ويكون قول: «حتى أكرمني الله عز وجلّ بنبوته» مقحما والله أعلم. وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح، قال شيخنا في تهذيبه: «ولم أقف على ذلك. والله أعلم» . ثم وجدت الحديث في تاريخ مكة، ص ٧، للفاكهي؛ وتاريخ ابن جرير: ٢/ ٣٤ من الطريق المذكور. ورواه الطبراني في المعجم الصغير ص ١٩٠، من حديث عمار بن ياسر، وفي سنده جماعة لم أعرفهم، وذكر نحو هذا الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ٨/ ٢٢٦.