أين هذا الحضيض من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفّعت عن المارب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول، والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا واحدها في عالم يعجّ بالصّمّ البكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرّأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرّد المكافح، وهو لا يني يقول:
إنّ المدينة الفاضلة التي تعشّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال، وجاءت في سطور الكتب دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أنّ الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.
إنّ المسلمين- بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم- هرعوا من مكة وغيرها إلى (يثرب) يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة.
ليست الهجرة انتقال موظّف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة..
إنها إكراه رجل امن في سربه، ممتدّ الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره- وهو يصفّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنّه يسير نحو مستقبل مبهم، ولا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طيّاش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيّ الضمير، وضّاء الوجه؟!.
إنّه الإيمان، الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟! بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والاخرة، وهو الحكيم الخبير.
هذه الصّعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوّار القلق، فما يستطيع شيئا من ذلك، إنّه من أولئك الذين قال الله فيهم: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: ٦٦] .
أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحقّ والصبر، فإنهم نفروا خفافا ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزّون الإسلام، وتؤمّنون مستقبله.