ونظر المشركون، فإذا ديار ب (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحالّ مؤنسة قد أمحلت.
مر عتبة، والعبّاس، وأبو جهل على دار بني جحش بعد ما غلّقت، فقد هاجر ربّ الدار، وزوجه، وأخوه أبو أحمد- وكان رجلا ضرير البصر-، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يبابا، ليس بها ساكن! فلما راها تصفر الريح في جنباتها قال:
وكلّ دار وإن طالت سلامتها ... يوما، ستدركها النّكباء والحوب
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وقطع بيننا..
وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة؛ فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبوا الاستكانة، فإباؤههم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!.
وكان من أول المهاجرين: أبو سلمة، وزوجه، وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟! وأخذوا منه زوجته. فغضب ال أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده، وذهبوا به، وانطلق أبو سلمة واحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها- تخرج كلّ غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟! فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة..
ولما أراد (صهيب) الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلّون سبيلي؟
قالوا: نعم، قال: فإنّي قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ربح صهيب «١» !.
(١) حديث صحيح، ذكره ابن هشام في (السيرة: ١/ ٢٨٩) معلّقا مرسلا، وقد وصله الحاكم: -