ثم يقول: «قل: يا أيها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أيّ بلد هذا؟» فيصرخ به! فيقولون: البلد الحرام، فيقول: «قل: إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا» .
ثم يقول: يا أيها الناس! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هل تدرون أيّ يوم هذا؟» .
فيقول لهم.. فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا..» .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد- بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة- أن يفرّغ في اذان الناس وقلوبهم اخر ما لديه من نصح.
كان يحسّ أنّ هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة واحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه الرشد، ويذكّره بما ينفعه أبدا.
وكان هذا النبيّ الطيب صلى الله عليه وسلم كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس، عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم ... وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع- بعد ذلك- شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنّهم قد سمعوا، وأنّه قد بلّغ.
لقد ظلّ ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويتلو على القاصي والداني اي الكتاب الذي نزل به الروح الأمين على قلبه، ويغسل أدران الجاهلية التي التاث بها كلّ شيء، ويربّي من هؤلاء العرب الجيل الذي يفقه الحقائق، ويفقّه العالم فيها.
وها هو ذا يقود الحجيج في أوّل موسم يخلص فيه من الشرك، ويتمحّض فيه لله الواحد القهار.
وها هو ذا على ناقته العضباء يستنصت الجماهير المائجة ليؤكّد المعاني التي بعث بها، والتي عرفهم عليها، ويخلّي ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التي نيطت بعنقه.
لقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام حين هتف وهو يا بني البيت العتيق:
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) [البقرة] .
إنّ العزيز الحكيم تجلّى باسميه الجليلين على هذه الديار، فوهب العزّة