للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ينسى الإنسان معه نفسه فهو- عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة- يفدي الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس.

عن عبد الله بن هشام قال: كنّا مع النبيّ عليه الصلاة والسلام، وهو اخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلا نفسي! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا- والذي نفسي بيده- حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك» ، فقال عمر: فإنّه الان لأنت أحبّ إليّ من نفسي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الان يا عمر» «١» ، أي: الان فقط تمّ إيمانك.

وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح: إنّ الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة.

وقد احترم الناس خلق الوفاء في السموءل لمّا ترك ابنه يذبح، مؤثرا أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته.

والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه.

ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الناس أن يقدّسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم، ليموتوا كي يحيا، أو ليهونوا كي يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتألّه فوقهم، كما تألّه فرعون وأمثاله من الجبارين.

كلّا كلّا، فمحمد صلى الله عليه وسلم يريد من المؤمنين أن يقدّسوا فيه معنى الرسالة وأن يفتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا- في شخصه- معالم الحق المنزل، وماثر الرحمة العامة.

إنّ الأنبياء لم يحيوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة.

إنّهم يحيون للعالم كله؛ أليسوا مناط هدايته التامة، وسعادته العامة؟

فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال.

وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أهلا لأن يحبّ؛ وما تعرف الدنيا رجلا فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.


(١) حديث صحيح، أخرجه البخاري: ١١/ ٤٤٥؛ وأحمد: ٤/ ٢٢٣، من حديث عبد الله بن هشام.

<<  <   >  >>