فقال عبد الله: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقّا فلا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه.
فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله! فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحبّ ذلك، فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل الرسول عليه الصلاة والسلام يخفّضهم حتى سكتوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابّته وسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألم تسمع ما قال أبو حباب- يعني ابن أبيّ-؟» قال سعد: وما قال؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:«قال كذا وكذا» ... فقال سعد: اعف عنه واصفح يا رسول الله، فو الذي أنزل عليك الكتاب! لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحرة- يعني المدينة- على أن يتوّجوه، ويعصّبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت «١» .
إن ابن أبيّ غصّ بالإسلام؛ لأنه راه خطرا على زعامته، وكذلك فعل أبو جهل من قبل، ولئن كان هؤلاء قد ازورّوا عن الحق بعد ما تبينوه، إنّ هناك ألوفا غيرهم لا يدركون قيلا ولا يهتدون سبيلا، كرهوا الإسلام وحاربوه.
ووسط هذه الجهالات البسيطة أو المركبة، والعداوات المقصودة أو المضللة، وسط نماذج لا حصر لها من الضلال والغافلة، أخذ الإسلام رويدا رويدا ينشر أشعته، فأخرج أمة من الظلام إلى النور؛ بل جعلها مصباحا وهّاجا يضيء ويهدي، والدروس التي أحدثت هذا التحول الخطير والتي رفعت شعوبا وقبائل من السفوح إلى القمم ليست دواء موقوتا أو مخصوصا، بل هي علاج أصيل لطبيعة الإنسان إذا التاثت، وستظل ما بقي الإنسان وبقيت الحياة تكرم الإنسان وتجدد الحياة.
(١) حديث صحيح، أخرجه البخاري: ٨/ ١٨٥- ١٨٦، بشرح فتح الباري؛ ومسلم: ٥/ ١٨٢ ١٨٣؛ وأحمد: ٥/ ٢٠٣، من حديث أسامة بن زيد.