ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها، والذي يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة أنفسا عظيمة، وقد كان العرب في جاهليتهم يرمقون محمدا صلى الله عليه وسلم بالإجلال، ويحترمون في سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلّا أنهم لم يتخيّلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستتفجّر من ذلك الفم الطّهور، فتطوي السهوب والجدوب، وتثب الوهاد والنّجاد.
إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد.
كان اصطفاء الله لمحمد صلى الله عليه وسلم مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقي عليه، ومضى على النهج مسددا مؤيدا.
ومكث الوحي ينزل ثلاثا وعشرين سنة كانت الايات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هي فترة تعلّم وتعليم.
الله عز وجلّ يعلّم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها في نفسه حتى يحيلها جزا من كيانه، ثم يعلّمها الناس ويأخذهم بها أخذا.
ونزول القران على هذه الوتيرة مقصود للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس، وسياسة الأمم، وتقرير الأحكام.
واتساق القران في أغراضه ومعانيه- على طول المدة التي استغرقها في تجمّعه- يعتبر من وجوه إعجازه؛ فإن خواتيمه- بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضا ويكمله، كأنما أرسلت في نفس واحد.
إنّ القران يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو- في دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفنّدها، ويسوق أدلته وهو على بينة من اراء خصومه، ويتتبع أقصى ما يثار ضدّه، ثم يكرّ عليه بالحجة فيمحقه، وقد بدأ القران بين قوم تشعّب الكفر في نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، وكأنّ القدر تخيّر هذه البيئة لتكون مجتمعا يمثل اخر ما يحيك في القلوب من ريبة، واخر ما يبذله الباطل من التحدي، فإذا أفلح الإسلام في