القوم أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم «١» .
وهكذا أفلح المسلمون في فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم، فما مضت أسابيع ثلاثة على ذلك الحصار المضروب حتى دبّ القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين؛ على حين بقيت جبهة المدافعين سليمة لم تثلم.
وفي ليلة شاتية عاتية لفحت سبراتها الوجوه والجلود، وأقعدت الرّجال في أماكنهم ينشدون الدفء، ويفرّون من القرّ المتساقط على الصخور والرمال، اتجهت نيات القوم إلى اتخاذ قرار حاسم في هذا القتال الفاشل!.
وكأنّما كان زئير الرياح الهوج سوطا يلهب المهاجمين، حتى لا يتوانوا في الخلاص من هذا الموقف، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء أسوار المدينة، وحوله أصحابه جاثمون في مكامنهم يرمقون الأفق بحذر، ويرقبون الغيب بأمل، والظلام البارد الثقيل يرين على كلّ شيء في الصحراء المترامية.
قال حذيفة بن اليمان: رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وبنو قريظة أسفل منّا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشدّ ظلمة ولا أشدّ ريحا منها، تطن في رياحها أصوات أمثال الصواعق، وما يتستطيع أحدنا أن يرى إصبعه من قتامها السائد، ولم يكن عليّ جنّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، لا يجاوز ركبتي، فأتاني الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على الأرض فقال:«من هذا؟» فقلت: حذيفة، فقال:«حذيفة؟» فتقاصرت في موضعي وأنا أقول: بلى يا رسول الله- كراهية أن أقوم! - فندبني لما يريد، وقال:«إنّه كائن في القوم خبر فأتني به» . فخرجت، وأنا أشدّ الناس فزعا وأشدهم قرّا، فدعا لي بخير، فمضيت لشأني كأنّما أمشي في حمّام- إنّها حرارة الإيمان، وحماسة الطاعة جعلت الرجل يغلب بعاطفته المتقدة قسوة الجو.
(١) ذكر هذه القصة ابن إسحاق بدون إسناد، وعنه ابن هشام: ٢/ ١٩٣- ١٩٤، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» ، صحيح متواتر عنه صلى الله عليه وسلم، رواه الشيخان من حديث جابر وأبي هريرة وغيرهما، انظر: الجامع الصغير مع شرحه (فيض القدير) ، للمناوي.