على أن الإلهام الأعلى لا يعطّل مواهب الإنسان الراقي، فمن الخطأ أن نتصور المرسلين أناسا مسخّرين تنطقهم الملائكة أو تسكتهم، إنهم لو لم يكونوا أنبياء لكانوا رجالا يرمقون باحترام، ويقدّمون عن جدارة.
إنّ الوحي لا يصيب الناس اتفاقا، بل يرشّح له أكمل الناس رشدا، وأسبقهم فضلا، وأنبلهم خلقا، وأنضجهم رأيا. وسيرة هؤلاء في الحياة ليست مما ينبذ، وكلمهم ليس مما يهمل، فكيف إذا تأيّدت هذه العراقة بالعصمة، وهذا الذكاء بالتسديد؟!.
إنّ السّير في ركاب المرسلين هو الخير كله، ومن ثمّ كانت سنّة محمد عليه الصلاة والسلام مصدرا لشريعته، مع الكتاب الذي شرّفه الله به، وجمهور المسلمين على هذا الفهم، إلا أن السّنن المأثورة عرض لها ما يوجب اليقظة في تلقيها، فليس كل ما ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام سنّة تقبل، ولا كلّ ما صحت نسبته صح فهمه، أو وضع موضعه!!
والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أسيء فهمها، واضطربت أوضاعها؛ حتى جاء أخيرا من ينظر إلى السنن جمعاء نظرة ريبة واتهام، ويتمنّى لو تخلّص المسلمون منها.
وهذا خطأ من ناحيتين: إهمال الحقيقة التاريخية أولا، فإن الدنيا لم تعرف بشرا أحصيت اثاره، ونقدت بحذر، ومحّصت بدقة كما حدث ذلك في اثار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «١» ، فكيف ترمى بعد ذلك في مطارح الإهمال؟!.
والناحية الاخرى أن في السنّة كنوزا من الحكمة العالية، لو نسب بعضها إلى أحد من الناس لكان من عظماء المصلحين، فلماذا تضيع على صاحبها ويحرم الناس خيرها؟!.
عند ما درسنا تراث محمد عليه الصلاة والسلام في الأخلاق، وذاكرنا أحاديثه التي تربو على الألوف في شتى الفضائل؛ خيّل إلينا لو أن جيشا من
(١) قد تكفّل المحدّثون رضي الله عنهم بتتبع الأحاديث النبوية، وتمييزها، وشرحها، ووضعها في موضعها، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا. (ن) .