بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام!! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟.
فو الذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار.
اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» .
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربا، ورسوله قسما، ثم انصرف.. وتفرقوا «١» ...
والأنصار- في تاريخ الدعوات- مثل فريدة للرجال الذين تقوم بهم الرسالات العظمى؛ حتى إذا استوت على سوقها، وتجاوزت أيام محنتها ومؤنتها، وتدلّت ثمارها وحلا جناها، جاءت أيد غير أيديهم، فقطفت ما تشتهي، ولم تكتف بذلك! بل لطمت أيدي الغارسين حتى لا تلقط من الثمار الساقطة قليلا ولا كثيرا!!.
ولا نقول ذلك تعليقا على توزيع الغنائم في هذا المقام، فقد اتضح وجه الرشد في هذه القسمة الحصيفة ...
ولكنّا نذكر في مناقب الأنصار، وافتراض ترفّعهم عن الدنيا في سبيل الدين، وتأليف الناس عليه، أنّ شؤون الحكم ابتعدت عنهم، واحتازها غيرهم وهم لها أكفاء، فلم تمض ثلاثون سنة حتى كانت في أيدي الطلقاء.
ولا ريبة في أنّ أولئك المتجرّدين لله سوف يلقون جزاءهم الأوفى، وأن شأن الدنيا أنزل قدرا من أن يأسى عليه رجل العقيدة.
غير أننا نتساءل: أكان من مصلحة الرسالات نفسها أن تقع هذه الأثرة؟ أم كان سوء حظّ الإسلام أن يلقى هذا اللون من الحكام، فيقصى أصحاب السبق
(١) حديث صحيح، رواه أحمد: ٣/ ٧٦- ٧٧؛ وابن هشام: ٢/ ٣١٠- ٣١١؛ وابن جرير: ٢/ ٣٦٠- ٣٦١، كلهم عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن أبي سعيد الخدري. وذكره ابن كثير في (البداية) : ٤/ ٣٥٨- ٣٥٩، من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق والسياق له، ثم قال ابن كثير: «وهو صحيح» . والقصة في البخاري: ٨/ ٣٨- ٤٢، بنحوها مختصرا.