فأصبح أهل الموسم- قاطبة- من الموحّدين، الذين لا يعبدون مع الله شيئا، وأقبلت وفود الله من كلّ صوب، تيمم وجهها شطر البيت العتيق، وهي تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في هذا العام أمير حجهم ومعلمهم مناسكهم!!.
ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الألوف المؤلفة وهي تلبّي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمّع الكريم ليقول كلمات تبدّد اخر ما أبقت الجاهلية من مخلّفات في النفوس، وتؤكّد ما يحرص الإسلام على إشاعته من اداب وعلائق وأحكام.
فألقى هذه الخطبة الجامعة «١» :
«أيّها النّاس! اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها النّاس! إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإنّ كلّ ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.
قضى الله أنّه لا ربا، وإنّ ربا العباس بن عبد المطّلب موضوع كلّه.
وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهليّة.
أما بعد: أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!!.
(١) رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بدون إسناد، وقد جاء سندها في أحاديث متفرّقة يطول الكلام في بيانها. وتفصيل ذلك في كتابي الكبير «حجة الوداع» ، أرجو الله أن يوفقني لإتمامه. وقسم كبير منها في حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، وقد جمعت طرقه وألفاظه في رسالة لطيفة طبعت في المطبعة السلفية بمصر.