والمحبة، وها هو ذا يواجه مكة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء والكبراء، وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم هم عشيرته الأقربون، لكنّ هذه الالام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.
وبدأت قريش تسير في طريقها، طريق اللّدد، ومجانبة الصواب، ومضى محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في طريقه، يدعو إلى الله، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع.. غير أن حرصه على هداية اله الأقربين، جعله يجدّد مسعاه محاولا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإنّ منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج.
وهم- قبل ذلك- أهله الذين يودّ لهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله.
روى ابن الأثير: قال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم «١» : لما أنزل الله على رسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)[الشعراء] ، اشتد ذلك عليه، وضاق به ذرعا، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمّاته يعدنه، فقال:«ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي» . فقلن له: فادعهم، ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك، فدعاهم، فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصّباة! واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة! وأنا أحق من أخذك! فحسبك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدّهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشرّ مما جئتهم به.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلّم في ذلك المجلس، ثم دعاهم ثانية، وقال: «الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد ألاإله إلا الله
(١) لم أجد في الرواة هذا الراوي، وإنما فيهم «جعفر بن عبد الله بن الحكم» وهو أنصاري أوسي تابعي صغير، يروي عن أنس والتابعين، فإذا كان هو هذا، فالإسناد مرسل ضعيف، ولم أقف على إسناده إليه، وإن كان غيره فلم أعرفه.