للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليهما في الحال بغير ما ماتا عليه. ولا بأن يخلقهم (١) ويجعل لهم اختيارًا ويمكِّنَهم من العمل، ولكنه يجعل الخير بحيث يُنَال بلا عناءٍ ولا مشقَّةٍ البتَّة؛ لأن مَن يُتَصَوَّرُ في حقِّه العناءُ والمشقَّة لا يُحْمَدُ على اختيار الخير والعمل به إلا بمقدار ما تحمَّلَهُ في سبيله من العناء والمشقَّة.

فلو أن جماعة جاد كلٌّ منهم بدينارٍ، وكان أحدهم لا يملك إلا ذلك الدينار وهو محتاجٌ إليه، والآخر يملك عشرةً، ولا يحتاج إليها كلِّها، والثالث: يملك مائةً، ولا يحتاج إلا إلى نصفها، والرابع: يملك القناطير المقنطرة من الذهب، ولا يحتاج إلا إلى عُشْرِ مِعْشَارِها= لكانوا متفاوتين في الحمد، وقد قال الشاعر (٢):

ليس العطاء من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليلُ

فأما قول الآخر (٣):

لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهم ... الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ

فمعنى قوله: "ساد الناس": عملوا ما هو ــ لولا عدم المشقَّة ــ من أسباب السيادة، فالحقيقة أنه لولا المشقَّة ما ساد أحدٌ من الناس.

هذا, والعبد إنما يَعْتَدُّ من طاعته بما كان عليه فيه عناءٌ ومشقَّةٌ, وإنما يُحمَد عليها على قدر ذلك. افرض أن رجلًا أثنى على عبده بالطاعة، فقلتَ له: ماذا بلغ في ذلك؟ فدعا العبد، وقال له: امسس أذنك اليمنى ولا تمسَّ


(١) معطوف على قوله: "ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال".
(٢) هو المقنَّع الكندي، والبيت في حماسة أبي تمام. انظر شرحها للشنتمري ٢/ ٩١٩.
(٣) هو أبو الطيب المتنبئ. انظر ديوانه مع الشرح المنسوب للعكبري ٣/ ٢٨٧.