للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم صار الناس يقولون في كلِّ من شَمُّوا منه رائحة الميل إلى الشرح والتفسير: "كان يرى القدر"، قالوا ذلك في الحسن البصريِّ وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وابن أبي ذئبٍ ــ الذي قال فيه أحمد بن حنبلٍ: "ابن أبي ذئبٍ أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحقِّ من مالكٍ" (١) ــ، وكذلك قالوا في ابن إسحاق وعبد الوارث بن سعيدٍ وحسَّان بن عطيَّة في خلقٍ كثيرٍ. ولم يكن هؤلاء الأعلام من القدريَّة الذين عُرِفَ عنهم الغلوُّ ولا يقولون مقالات المعتزلة، ولا كان المنكرون عليهم الذين ينسبونهم إلى القدر جبريَّةً، حاشاهم، وإنما الفرق بين الفريقين أن هؤلاء مالوا إلى إظهار شيءٍ من الشرح والتفسير، وهؤلاء يرون أن الصواب أن لا يُظْهَرَ إلا الإجمالُ كما جاءت به السنَّة. ولكن بعد أن ظهرت بدعة الجبريَّة وجَرَّتْ إلى ما جَرَّتْ إليه كما تقدَّم حَقَّ على أهل العلم أن ينكروا عليهم وينزِّهوا السلف الصالح عن بدعتهم، فذلك الذي دعاني إلى بيان ما سمعتَ، وأسأل الله التوفيق.

وإن لم يفهموا (٢) عملوا بما أمرهم الله تعالى به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [ز ٤٢] مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٧ - ٨].

واعلم أن الذي استقرَّ عليه قول علماء الأصول من الأشعريَّة وغيرهم منع التكليف بما ليس في الوُسْعِ، ويسمُّونه التكليف بالمحال والتكليف بما


(١) المعرفة والتاريخ ١/ ٦٨٦، وفي تاريخ بغداد ٢/ ٣٠٢: أصلح في دينه.
(٢) معطوف على قوله في الصفحة السابقة: فإذا فهموا نظروا ...