للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما قولُ الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: «كيف تخاطب أمواتًا قد جَيَّفوا؟» (١) مع إخباره بسماعهم (٢) كلامَه، فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادِهم ذلك الوقتَ ردًّا يسمعون به خطابه، والأجساد قد جَيَّفت، فالخطاب للأرواح المتعلّقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.

وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢] فسياقُ الآية يدلُّ على أنَّ المرادَ منها: أنَّ الكافرَ مَيِّتُ القلب، لا يقدرُ على إسماعه سماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا يقدر (٣) على إسماعهم سماعًا ينتفعون به. ولم يُرِدْ [٢٩ أ] سبحانه أنَّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئًا البتة. كيف وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم يسمعون خفقَ نِعال المشيِّعين، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامَه وخطابَه، وشرعَ السلامَ عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ من سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام (٤)؟ وهذه الآية نظيرُ قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: ٨٠].

وقد يقال: نفيُ إسماعِ الصُّمِّ مع نفي إسماعِ الموتى يدلُّ على أنَّ المرادَ عدمُ أهليّة كلٍّ منهما للسماع. وأنَّ قلوبَ هؤلاء لما كانت ميتةً صُمًّا (٥) كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصمِّ. وهذا حقٌّ، ولكن لا ينفي


(١) تقدم في أول الكتاب (ص ٧).
(٢) (ب، ج): «إنكاره لسماعهم».
(٣) (ط): «يقدرون».
(٤) الأحاديث المذكورة قد سبق تخريجها في أول الكتاب.
(٥) في معظم النسخ ضبط بتنوين الميم.