للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشهوة والغضب. فإنما هما حرارتان تظهران على الأركان: حرارةٌ من قِبل النفس المطمئنة أثارَها تعظيمُ حقِّ الله، وحرارةٌ من قِبل النفس الأمَّارة أثارَها استشعارُها فوتَ الحظ (١).

والفرقُ بين الجُود والسَّرَف: أنَّ الجوادَ حكيمٌ يضع العطاءَ مواضعَه، والمسرفُ مبذِّر، قد يُصادف عطاؤه موضعَه، وكثيرًا لا يصادفه.

وإيضاحُ ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقًا، وهي نوعان: حقوق موظفة وحقوق ثابتة (٢). فالحقوق الموظفة كالزكاة والنفقات الواجبة على من تلزمه نفقتُه. والثابتة: كحقِّ الضَّيف، ومكافأة المُهدي، وما وقى به عِرْضَه ونحو ذلك. فالجوادُ يتوخَّى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طَيِّبةً بذلك نفسُه، راضيةً مؤمِّلةً للخُلف في الدنيا والثواب في العُقبى. فهو يُخرِج ذلك بسماحة قلب، وسخاوة نفس، وانشراح صدرٍ، بخلاف المبذِّر، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافًا، لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة، وإن اتَّفقتْ له.

فالأول بمنزلة من بذَرَ حبَّةً في أرضٍ تُنبِتُ، وتوخَّى ببذره مواضع المُغَلِّ (٣) والإنبات. فهذا لا يُعَدُّ مبذِّرًا ولا سفيهًا. والثاني بمنزلة من بذَرَ حبةً في سِباخ وعَزاز (٤) من الأرض، وإن اتفق بذرُه في محلِّ النبات بذَره


(١) ما عدا الأصل: «استشعار فوت الحظ».
(٢) في النسخ المطبوعة: «ثانية»، تصحيف.
(٣) من أغلَّت الضيعةُ: أعطت الغَلَّة.
(٤) السِّباخ جمع السبْخة، وهي أرض ذات ملح ونَزٍّ لا تنبت شيئًا. والعَزاز: المكان الصلب السريع السيل.