وهاهنا فرحةٌ أعظمُ من هذا كلِّه. وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسَلَ إليه الملائكةَ، فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشِري برَوح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضيًّا عنك {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: ٢٧ ــ ٣٠].
فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومِن بعدها أنواعٌ من الفرح! منها صلاةُ الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحِه. ومنها فتحُ أبواب السماء لها، وصلاةُ ملائكة السماء عليها، وتشييعُ مقرَّبيها لها إلى السماء الثانية فتُفتَح لها، ويصلِّي عليها أهلُها، ويشيِّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة. فكيف يقدَّر فرحُها وقد استؤذن لها على ربِّها ووليِّها وحبيبها، فوقفتْ بين يديه، وأذِنَ لها بالسجود فسجدَتْ، ثم سمعَتْه سبحانه يقول: اكتبوا كتابه في علِّيين. ثم يُذهب به، فيرى الجنةَ ومقعدَه فيها وما أعدَّ الله له، ويلقَى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به، ويفرح بهم فرحَ الغائب يقدَم على أهله، فيجدهم على أحسن حال، ويقدَم عليهم بخيرِ ما قدم به مسافر.
هذا كلُّه قبل الفرح الأكبر يومَ حشرِ الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُربِه من الحوض، وأخذِه كتابَه بيمينه، وثقَلِ ميزانه، وبياضِ وجهه، وإعطائه النورَ التامَّ، والناسُ في الظلمة؛ وقطعِه جسرَ جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنَّة وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقِّي خَزَنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريِّه.