للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وله فرحةٌ أخرى عظيمةُ الوقع عجيبةُ الشأن. وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة، فإنَّ لها فرحةً عجيبة لا نسبةَ لفرحةِ المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أنَّ لذةَ التوبة وفرحتَها تزيد على لذةِ المعصية وفرحتِها أضعافًا مضاعفةً لَبادرَ إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.

وسرُّ هذا الفرح إنما يعلَمُه مَن عَلِمَ سرَّ فرح الربِّ تعالى بتوبة عبده أشدَّ فرح يقدَّر. ولقد ضرَب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه، وهو فرحُ رجلٍ قد خرج براحلته التي عليها طعامه وشرابه في سفر، ففقدها في أرض دَوِّيَّة (١) مَهْلَكة، فاجتهد في طلبها فلم يجدها، فيئس منها، فجلس ينتظر الموت، حتى إذا طَلَع البدرُ رأى في ضوئه راحلَته وقد تعلَّق زمامُها بشجرة، فقال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك. أخطأ من شدَّة الفرح، فالله أفرَحُ بتوبة عبده [١٦٥ أ] من هذا براحلته (٢).

فلا ينكَر أن يحصل للتائب نصيب وافرٌ من الفرح بالتوبة، ولكن هاهنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد تَرحاتٍ ومضَضٍ ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبَر لها ظفِر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء. وآخرُ أمره فواتُ ما آثره من فرحة المعصية ولذتها، فيفوته الأمران، ويحصلُ على ضدِّ اللذة من الألم المركَّب من وجود المؤذي وفوت المحبوب، فالحكم لله العلي الكبير.


(١) (ن): «داوية»، وكلاهما بمعنى الفلاة.
(٢) أخرجه البخاري عن ابن مسعود (٦٣٠٨) وعن أنس (٦٣٠٩)، ومسلم عن ابن مسعود (٢٧٤٤) والبراء (٢٧٤٦) وأنس (٢٧٤٧) وغيرهم.