للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨]. أي: إن غفرتَ لهم غفرتَ عن عزَّةٍ [١٦٠ أ] وهي كمالُ القدرة، وحكمةٍ وهي كمالُ العلم. فغفرتَ بعد أن علمتَ ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك، إذ المخلوق قد يغفر (١) لعجزِه عن الانتقام، وجهلهِ بحقيقة ما صدَر من المسيء، والعفوُ من المخلوق ظاهرُه ضيمٌ وذلٌّ، وباطنه عزٌّ ومهابة. والانتقامُ ظاهرُه عزٌّ، وباطنُه ذلٌّ، فما زاد الله عبدًا (٢) بعفوٍ إلا عزًّا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذلَّ، ولو لم يكن إلا بفوات عزِّ العفو. ولهذا ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط (٣).

وتأمل قوله سبحانه: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩] كيف يُفهم منه أنَّ فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم، لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم؟ ولما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حدِّ العدل غالبًا بل لابد من المجاوزة، شرَع فيه سبحانه المماثلة والمساواة، وحرَّم الزيادة، وندَب إلى العفو. والمقصودُ أن العفو من أخلاق النفس المطمئنة، والذلَّ من أخلاق الأمَّارة.

ونكتة المسألة (٤) أن الانتقامَ شيء، والانتصارَ شيء. فالانتصار أن ينتصر لحقِّ الله ومن أجله. ولا يقوَى على ذلك إلا مَن تخلَّص من ذلِّ حظّه ورِقِّ هواه، فإنه حينئذٍ ينال حظًّا من العزِّ الذي قَسَم الله للمؤمنين، فإذا بُغيَ عليه


(١) (ب، ط، ج): «يعفو».
(٢) لم يرد «عبدًا» في (أ، ق، غ).
(٣) أخرجه البخاري (٦٧٨٦) ومسلم (٢٣٢٧) من حديث عائشة. وانظر كلام المؤلف على الآية الكريمة في مدارج السالكين (١/ ٣٦)، (٢/ ٣٧٩).
(٤) (ج): «وسرّ المسألة».