للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

انتصر من الباغي، من أجل عزِّ الله الذي أعزَّه به، غيرةً على ذلك العزِّ أن يُستضامَ ويُقهَر، وحميَّةً للعبد المنسوب إلى العزيز الحميد أن يُستذَلَّ، فهو يقول للباغي عليه: أنا مملوكُ مَن لا يُذِلُّ مملوكَه، ولا يحبُّ أن يُذِلَّه أحد.

وإن كانت نفسُه الأمَّارةُ قائمةً على أصولها، لم تُجْتَثَّ بعدُ، طلبتْ الانتقامَ (١) والانتصارَ لحظّها وظَفَرها بالباغي، تشفِّيًا فيه وإذلالًا له. وأمَّا النفس المطمئنة التي خرجت من ذُلِّ حظِّها ورِقِّ هواها إلى عزِّ توحيدها وإنابتها إلى ربها، فإذا نالَها البغيُ قامت بالانتصار حميّةً ونصرةً للعزِّ الذي [١٦٠ ب] أعزَّها الله به ونالته منه، وهو في الحقيقة حميَّةٌ لربِّها ومولاها.

وقد ضُربَ لذلك مثلٌ بعبدَين من عبيد الغَلَّة حرَّاثَين، ضرب أحدُهما صاحبَه، فعفا المضروب عن الضَّارب، نُصحًا منه لسيِّده، وشفقةً على الضَّارب أن يعاقبه السيِّد، فلم يجشِّم سيّدَه كُلفةَ (٢) عقوبتِه وإفسادِه بالضرب، فشكرَ العافي على عفوه، ووقع منه بموقع.

وعبدٌ آخرُ قد أقامه بين يديه، وجمَّلَه، وألبسه ثيابًا يقف بها بين يديه. فعمَد بعضُ سُوَّاس الدوابِّ وأضرابهم، ولطَّخ تلك الثيابَ بالعَذِرة، أو مزَّقها، فلو عفا عمَّن فعل به ذلك لم يوافق عفوُه رأيَ سيده ولا محبتَه، وكان


(١) انفردت (ج) بهذا الصواب. وقد وردت «طلبت» في غيرها جميعًا بالتاء المربوطة. و «تجتث» غير منقوطة في الأصل، فرسمها النسَّاخ كما وجدوها. وحذفها بعضهم كما في (ن)، ولم تقرأ صحيحةً إلا في (ج، غ). وفي النسخ المطبوعة: «لم تحب بعد طلبه إلا الانتقام» فزيدت كلمة «إلا» مع التصحيف.
(٢) في النسخ المطبوعة: «خلقه». وكذا في (غ، ق). والأصل غير منقوط. وفي غيرها بالفاء أو بالحاء والفاء. والصواب ما أثبت من (ب، ج).