للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الانتصارُ أحبَّ إليه وأوفق لمرضاته؛ كأنه يقول: إنما فُعِل هذا بك جراءةً عليَّ واستخفافًا بسلطاني. فإذا مكَّنه من عقوبته، فأذلَّه وقهَره، ولم يبق إلا أن يبطش به، فذلَّ وانكسر قلبه؛ فإنَّ سيِّده يحبُّ منه أن لا يعاقبه لحظِّه، وأن يأخذ منه حقَّ السيِّد، فيكون انتصارُه حينئذٍ لمحضِ حق سيِّدِه لا لنفسه.

كما رويَ عن علي رضي الله عنه أنه مرَّ برجل، فاستغاث به، وقال: هذا منعني حقِّي، ولم يعطني إياه. فقال: أعطِه حقَّه. فلما جاوزهما لجَّ الظالم، ولطم صاحب الحقِّ، فاستغاث بعليٍّ، فرجع، وقال: أتاك الغوث. فقال له: استعِدْ لطمتَك (١)، فقال: قد عفوتُ يا أمير المؤمنين. فضربَه عليٌّ تسع دُرَر، وقال: قد عفا عنك مَن لطمتَه، وهذا حقُّ السلطان. فعاقبه عليٌّ لما اجترأ على سلطان الله، ولم يدعه (٢).

ويشبه هذا قصة الرجل الذي جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: احمِلْني، فوالله لأنا أفرَسُ منك ومن أبيك! وعنده المغيرة بن شعبة، فحسَر عن ذراعه، وصكَّ بها أنفَ الرجل، فسال الدم. فجاء قومه إلى أبي بكر فقالوا: أقِدْنا من المغيرة. فقال: أنا أقيدكم من وَزَعة الله (٣)؟ لا أقيدكم منه (٤). فرأى أبو بكر أن ذلك انتصارٌ [١٦١ أ] من المغيرة وحميةٌ لله وللعزِّ الذي أعَزَّ به خليفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليتمكن بذلك العزِّ من حسن خلافته


(١) (ب): «استقد ... » وفي بعض النسخ المطبوعة: «استقد منه»، غيّر في المتن.
(٢) القصة أخرجها الطبري في تاريخه (٥/ ١٥٦).
(٣) وزَعة جمع وازِع. أراد الذين يكفُّون الناس عن الإقدام على الشر. النهاية لابن الأثير (٥/ ١٨٠).
(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١٧٣٤٠) عن المغيرة بن شعبة.