للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في القلب، يمدُّه شدة الطمع والحرص، ويتولَّد من ضعف الإيمان بالقدر؛ وإلا فمتى عُلِم أن المقدَّر (١) كائنٌ ولابدَّ كان الجزع عناءً محضًا ومصيبة ثانية. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: ٢٢، ٢٣]. فمتى آمن العبدُ بالقدر، وعلم أنَّ المصيبة مقدَّرةٌ في الحاصل والغائب؛ لم يجزع، ولم يفرح.

ولا ينافي هذا رقَّةَ القلب، فإنها ناشئةٌ من صفة الرحمة التي هي كمال. والله إنما يرحم من عباده الرحماءَ (٢). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرقَّ الناس قلبًا، وأبعدَهم من [١٦٦ أ] الجزع. فرقَّةُ القلب رحمة ورأفة، وجزَعُه مرض وضعف.

فالجزع حال قلبٍ مريضٍ بالدنيا، قد غشِيَه دخانُ النفس الأمَّارة، فأخذ بأنفاسه، وضيَّق عليه مسالكَ الآخرة، وصار في سجن الهوى والنفس، وهو سجنٌ ضيِّق الأرجاء مظلمُ المسالك؛ فلانحصار القلب وضيقه يجزع من أدنى ما يصيبه ولا يحتمله. فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلالِه= رَقَّ، وصارت فيه الرأفةُ والرحمة. فتراه رحيمًا رقيق القلب بكلِّ ذي قُربى ومسلمٍ، يرحم النملةَ في جُحرها، والطيرَ في وكرها، فضلًا عن بني جنسه. فهذا أقربُ القلوب من الله تعالى.


(١) (ز، ن): «المقدور». (ب، ج، ط): «القدر».
(٢) أخرجه البخاري (١٢٨٤) من حديث أسامة بن زيد.