للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البشرية بالطمأنينة والسكون والثقة بربها تبارك وتعالى، ولا سيما فيما يتعلق بالغاية الحميدة، والحكمة الجليلة في إيجاد المخلوقات؛ إذ في هذه الغاية التي لا أعظم منها تجلى حكمة الله تعالى الباهرة، ورحمته الشاملة؛ إذ خلق الخلق لعبادته التي هي أعظم ما يحتاجه البشر، وبذلك تظهر قيمة الإنسان في هذا الكون، التي اتسمت بعظيم الشرف ومنتهى العزة والرقي، إذ هو لم يخلق للعبث ولا للعب، ولا لغاية دنيئة، ولا حكمة حقيرة، وإنما خلق لغاية عظيمة هي منتهى عزه وغاية سعادته.

والقاعدة دلت على أن عبادة الله تبارك وتعالى، وإفراده بالتوحيد، وترك عبادة ما سواه، والقيام بفعل أوامره وترك مناهيه، هو الغاية والحكمة التي خلق لها الإنس والجن، ففعل بهم الأول وهو خلقهم ليفعلوا هم الثاني وهو عبادته، لا ليفعله هو فيجعلهم عابدين له، وإنما خلقهم مهيئين مستعدين لها في أصل الخلقة، فمن وقعت منه العبادة فقد أرادها الله منه شرعًا وكونًا، ومن لم تقع منه فقد أرادها منه شرعًا ولم يردها سبحانه كونًا وقدرًا (١).

فالله تعالى لم يخلقهم للعباده خلق جبلة وإجبار، وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خُلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بأعمال أهل الشقاء (٢).

يقول الإمام ابن تيمية: "وهو سبحانه لم يقل أنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونون هم


(١) انظر: حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد (ص ١٣)، بتصرف.
(٢) انظر: تفسير الثعلبي (٩/ ١٢١)، والكشاف للزمخشري (٤/ ٤٠٨ - ٤٠٩).