دلَّ على صحة هذه القاعدة أدلة عديدة، أذكر منها ما يلي:
أولًا: من أصرح الأدلة الدالة على تقرير ما أفادته القاعدة قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} [الذاريات: ٥٦ - ٥٨].
ودلالة الآية من حيث إفادتها للحصر (بما) النافية مع (إلا) المفيدان للحصر والقصر، (فيكون معنى الكلام: أني خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة).
ولأن الاستثناء هنا مفرغ -أي: من أعمِّ الأحوال كما يقول النحاة- والمعنى: وما خلقت الجن والإنس لشيء، أو لغاية من الغايات أبدًا إلا لغاية واحدة هي: أن يعبدوني (١).
(١) انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص ١١ - ١٢)، وفي نوع القصر خلاف بين أهل العلم؛ أي: هل هو قصر حقيقي أم إضافي، والظاهر أن العبادة هي أعظم الغايات من إيجاد الخلق، ولا يمنع ذلك وجود غايات أخرى للرب تبارك وتعالى من الخلق تكون تابعة للغاية العظمى، ألا وهي العبادة، يقول الشيخ ابن عاشور: "فالحصر المستفاد من قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} قصرُ علة خلق الله الإنس والجنَّ على إرادته أن يعبدوه، والظاهر أنه قصر إضافي، وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول (يعبدون)؛ أي: إلا ليعبدوني وحدي؛ أي: لا ليشركوا غيري في العبادة، فهو ردّ للإشراك، وليس هو قصرًا حقيقيًا، فإنا وإن لم نطلع على مقادير حِكَم الله تعالى من خَلق الخلائق، لكنَّا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مُجردَ أن يعبدوه، لأن حِكَم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نُحيط بها، وذكر بعضها كما هنا لما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى، ألَا ترى أن الله ذكر حِكمًا للخلق غير هذه كقوله: { ... وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ١١٨ - ١١٩]، بَلْهَ ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس =