للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا هو الضابط في تتبع آثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أنه لا يجوز متابعته إلا فيما قصد فيه التعبد، والقربة إلى الله تعالى، وأما ما حصل من باب العادة، أو اتفاقًا ومصادفة، أو للحاجة، فلا تشرع فيه المتابعة؛ لأن المتابعة الشرعية تكون في صورة العمل والقصد، وهذا هو المذهب الحق (١).

يقول الإمام ابن تيمية: "وما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه، فإذا خصص زمانًا أو مكانًا بعبادة كان تخصيصه بتلك العبادة سُنَّة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها، وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنَّه فعل، وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد" (٢).

وقال -رحمه الله-: "فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلًا سنَّ لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له -صلى الله عليه وسلم-، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحًا كما فعله مباحًا؛ ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان، كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنّا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحًا فعلناه مباحًا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصًا به نوع اختصاص" (٣).

وممن مال إلى كونه عبادة الإمام الشوكاني حيث قال: "فإن تتبع


(١) لقد تمت دراسة هذه المسألة في قاعدة مستقلة بعنوان: (اعتبار ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادة موقوف على قصده التعبد) (ص ٧٠٤).
(٢) مجموع الفتاوى (١٠/ ٤٠٩).
(٣) المصدر نفسه (٢٧/ ٥٠٤).