إلا عن محبة وإرادة، حتى دفعه للأمور التي يبغضها ويكرهها فإنما يدفعها بإرادته ومحبته لأضدادها، واللذة التي يجدها بالدفع كما يقال: شفى غيظه، وشفى صدره، والشفاء والعافية يكون للمحبوب، وإن كان كريهًا مثل شرب الدواء الذي يدفع به ألم المرض، فإنَّه وإن كان مكروهًا من وجه، فهو محبوب؛ لما فيه من زوال المكروه، وحصول المحبوب.
وكذلك فعل الأشياء المخالفة للهوى، فإنها وإن كانت مكروهة، فإنما تفعل لمحبة وإرادة، وإن لم تكن محبوبة لنفسها، فإنها مستلزمة للمحبوب لنفسه، فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه، إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة، ولذلك كانت المحبة والإرادة أصلًا للبغض والكراهة؛ فإن البغيض المكروه ينافي وجود المحبوب، والفعل؛ إما أن يتناول وجود المحبوب، أو دفع المكروه المستلزم لوجود المحبوب، فعاد الفعل كله إلى وجود المحبوب.
والحركة الاختيارية: أصلها الإرادة، والقسرية والطبيعية تابعتان لها، فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية، فجميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة، وبها تحرك العالم ولأجلها، فهي العلة الفاعلية والغائية، بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم، فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها، بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون، وكمال المحبة هو العبودية، والذل، والخضوع، والطاعة للمحبوب، وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض، والدنيا والآخرة" (١).
وإذا ثبت أن المحبة والإرادة أصل كل عمل وحركة، فإن كانت محبة الله، وإرادة وجهه، وقصده سبحانه وحده دون ما سواه، فهي من أعظم الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، وإن كانت لغير الله
(١) روضة المحبين (ص ٥٨ - ٥٩)، وانظر: قاعدة في المحبة، لابن تيمية (ص ٩).