للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجوده شيء، والشعور به شيء، وهذا الطلب والإرادة هو بحسب الشعور، والمعرفة بالمطلوب المراد، وصفات كماله، ونعوت جلاله وجماله ...

فالرسل جاؤوا بكمال الأمرين على أتم الوجوه، فإنهم ذكروا من فات هذا الرب الذي تألهه القلوب وتطمئن إليه الأرواح ما يكون داعيًا إلى محبته، وأمروا الناس من توحيده وعبادته وحده لا شريك له بما إذا فعلوه أحبهم عليه، فجاءت النفاة المعارضون للوحي بعقولهم، وآرائهم، فوقفوا في طريق الرسل، وأتوا بما يضاد دعوتهم، فنفوا صفاته التي تعرَّف بها إلى عباده، وجعلوا إثباتها تجسيمًا وتشبيهًا، ووصفوه من السلوب والنفي بما حال بين القلوب وبين معرفته، وأكدوا ذلك بأنه لا يُحِب ولا يُحَب، ولا له وجه يراه العابدون المحبون له يوم القيامة فضلًا عن أن يحصل لهم لذة هناك بالنظر إليه، ولا يكلمهم، ولا يخاطبهم، ولا يسلم عليهم من فوقهم، فلما استقر هذا النفي في قلوبهم تعلقت بغيره من أصناف المحبوبات، فأشركت به في المحبة، ولا بد، وكان أعظم الأسباب الحاملة لها على الشرك هو التعطيل، فانظر إلى تلازم الشرك والتعطيل وتصادقهما وكونهما:

رضيعَي لِبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تقاسما ... بأسْحَمَ داجٍ عَوْضَ لا نتفرّقُ (١) " (٢)


(١) البيت للأعشى، وانظر: جمهرة اللغة (٢/ ٩٠٥)، وقوله: رضيعي لبان: هو مثنى رضيع، ورضيع الإنسان مراضعه، فإنه إذا كانت المفاعلة بين اثنين جاء كل واحدٍ منهما على فعيل، كقعيد وجليس بمعنى مقاعد ومجالس، والفعيل بمعنى الفاعل كالجليس فليس للمبالغة فلا يعمل اتفاقًا، والمعنى: أن (المحلق الكلابي) الممدوح والندى ارتضعا ثدي أم تحالفا على أنهما لا يتفرقان أبدًا؛ لأن (عَوْضَ) من أسماء الدهر، وهو مما يبنى على الضم والفتح، وعنى بالأسحم الداجي ظلمة الرحم، وقيل: بل عنى به الليل، ومعنى تقاسما فيهما؛ أي: تحالفا وقد قيل: إن المراد بلفظة تقاسما اقتسما، وأن المراد بالأسحم الداجي: الدم وقيل: بل المراد بالأسحم: اللبن لاعتراض السمرة فيه، وبالداجي: الدائم. [نظر: خزانة الأدب (٧/ ١٤٤)، ودرة الغواص في أوهام الخواص (١٩٣)].
(٢) الصواعق المرسلة (٤/ ١٣٥٣ - ١٣٥٦).