للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأصل الفَطْرِ هو بداية الخلق والابتداء، وهذا يشمل جميع ما في الكون، فالله هو الفاطر للسموات والأرضين، والجبال والبحار، والجن والإنس، بل ما من ذرة في الكون إلا هو خالقها وفاطرها.

والفِطْرَة التي فطر الله عليها الخلق أمر زائد على مجرد خلقهم وإيجادهم، إذ هي هيئة وطبيعة في النفس الموصوفة بالحياة، تقود إلى إدراك وفعل ما فيه الخير والنفع، وإلى ترك وتجنب ما فيه الشر والضر، دون حاجة لتوسط الآخرين في المعرفة والتعليم، أو الإدراك والتفهيم، وهي بهذا عامة مشتركة بين الإنسان والحيوان.

فهي في الأصل قوة علمية وعملية مرتبطة بحقيقة الخلقة، وأصل التكوين البشري، ولا تعلق لها بمؤثر خارجي البتة؛ لا في إيجادها، ولا في حقيقة صفاتها الأصلية (١)، وإن كانت قابلة للتأثر والتغير بعد ذلك. وهذا هو السبب في تسميتها (بِالفِطْرَة) إذ هي مرتبطة ببداية الخَلْقِ ووجوده؛ فمتى وجد الخَلْقُ وجدت معه الفِطْرَة ولا بد {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠].

يقول الإمام ابن القيم: "فإن الله سبحانه فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق ين النافع والضار، والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه، والفطرة الأولى هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية فمشتركة بين أصناف الحيوان، وحجة الله عليه إنما تقوم بواسطة الفطرة


= الأعظم لابن سيده (٩/ ١٥٣)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (٣/ ٤٥٧).
(١) قال السمعاني في معرض ذكره لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}: "فأخبر أن الناس قد خلقوا على الدين الحنيفي بلا صنع منهم". [قواطع الأدلة في الأصول (٢/ ٣٤٨ - ٣٤٩)، لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني].