للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النفس في الأصل مفطورة على الخير ومعرفة الحق وحبه، وهي ما دامت سليمة فإنها باقية على هذا الحق ومحبته، نعم إن فسدت الفِطْرَة وتغيرت تقبَّلت بعد ذلك الشر، واعتقدته، وعملت، -بحسب ما طرأ عليها من تغيير- لا أنه في أصل ذاتها وخلقتها، وإنما طرأ عليها الشر بعد فسادها وانحرافها، مع بقاء شيء من أصل الفِطْرَة السليمة يتلجلج في صدرها، لا تستطيع نفيه، تشعر به وتحسه، وهو داعي الخير في قلب كل إنسان، متى ما أراد الله بعبده خيرًا تحرك هذا الداعي ونشط وهبَّ في صلاح القلب والنفس، فكان رجوعها إلى الله تعالى بالتوبة والطاعة.

يقول الإمام ابن رجب: "وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق، والسكون إليه، وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضده" (١).

ويقول الإمام ابن تيمية: "وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد، فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه، وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)} [طه: ٥٠]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)} [الأعلى: ٢، ٣]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا، بحسب حاجته، ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة، والعادة الصحيحة" (٢).

ويقول أيضًا: "ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله


(١) جامع العلوم والحكم (ص ٢٥٣).
(٢) درء التعارض (٨/ ٣٨٤).