وهكذا أيضاً توسطهم في غيره من الأولياء والصالحين، وذلك أن هناك طائفتين ضلتا في مسألة الأولياء: طائفة غلت، وطائفة جفت.
فالطائفة الذين غلو هم الذين يعبدون الأولياء، والولي عندهم: هو الرجل الصالح الذي قد حصل من القرب ومن الصلاح في العمل ما جعله محبوباً عند الله، وأنه ولي من أولياء الله، يجري الله على يديه من خوارق العادات ما لم يجره على يدي غيره، فقالوا: هذا الولي يستحق منا أن نقدسه، فصاروا يغلون فيه في حياته، فيتمسحون به وبثيابه، ويتبركون بما مسه من ماء أو غيره، وبعد موته يعكفون عند قبره ويتمسحون بقبره، ويصلون عنده ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية وفضيلة، وأنه يشفع لهم في تكفير سيئاتهم وفي قبول صلاتهم، وفي مضاعفة حسناتهم، فيعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده، فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وقدرهم.
والطائفة الثانية الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدراً، ولا يقيمون لهم وزناً، فلا يقتدون بهم، ولا يتبعون سيرتهم، ويحقرون شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم، ويدعون أنهم -كما يعبرون- أهل تشدد، أو أهل جمود، أو أهل رجعية وتقهقر أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة، فهؤلاء قد فرطوا.
وأهل السنة توسطوا فيما لأولياء الله تعالى، فقالوا: نحن نحبهم؛ لأن الله يحبهم، بل ونحب كل من يحبه الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء، ولكن محبتنا لهم لا تصل إلى أن نتمسح بتربتهم، ولا إلى أن نصير لهم شيئاً من حقوق الله، أو نذبح لهم من دون الله، أو نطوف بأضرحتهم، أو ندعوهم مع الله أو من دون الله، بل محبتنا لهم تحملنا على أن نقتدي بأفعالهم، فإذا كنا كذلك فإننا متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط.
هكذا جاء دين الإسلام، فالذين غلوا وزادوا وقعوا في الشرك؛ وذلك لأنهم عظموا هؤلاء المخلوقين، وجعلوا لهم شيئاً مما لا يصلح إلا لله، فإن التعظيم عبادة والعبادة لله وحده؛ لأن العبادة هي التذلل، فإذا كانوا يتذللون عند تلك الأضرحة، ويخضعون ويخشعون، فتلك عبادة، وإذا كانوا يذبحون لهم وينذرون فذلك تعظيم وهو من العبادة، وإذا كانوا يدعونهم ويهتفون بأسمائهم فإن الدعاء مخ العبادة، وإذا كانوا يتمسحون بهم ويطوفون بقبورهم ويطيلون الإقامة عندها فإن ذلك تعظيم، وذلك حقيقة العبادة، فأولئك الذين غلوا وقعوا في الشرك بالله سبحانه، مع أن هؤلاء الصالحين لا يرضون أن يشرك بهم، فالمسيح عليه السلام بريء من شرك من أشرك به، وهكذا كل من عبد من دون الله ولم يرض فهو بريء من شرك من أشرك به.
وفي يوم القيامة لابد وأن يتبرءوا منهم، ويقولوا: نحن برآء من أفعالكم، كما قال تعالى عن الملائكة:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:٤٠ - ٤١]، فأخبروا بأنهم عبدوا ولكنهم لم يرضوا بذلك، ولا أحبوا ذلك، وإنما الشياطين هي التي سولت لهم وزينت لهم أن يعظموهم وأن يعبدوهم، وإلا فأنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده بريئون من شرك من أشركهم مع الله سبحانه وتعالى.
وبالجملة: فإن المسلمين أهل العقيدة السلفية قد توسطوا في أولياء الله، فأحبوهم محبة قلبية، وحملتهم محبتهم على أن تتبعوا أخبارهم ودونوا سيرتهم، ونظروا في الأشياء التي كانوا يعملونها فعرفوا أنهم ما صاروا صالحين إلا بسبب زهدهم في الحرام وبعدهم عنه، وتقربهم إلى الله بأنواع القربات، فقالوا: هذا هو سبب صلاحهم، لماذا لا نفعل مثلما فعلوا حتى نكون مثلهم، فنصلح كما صلحوا، حتى نكون أولياء لله كما كانوا أولياء لله، يحبهم الله تعالى ويوفقهم ويعينهم، فنفعل الأفعال التي أحبهم الله لأجلها حتى يحبنا كما أحبهم، وحتى يعيننا كما أعانهم، ويهدينا كما هداهم.